الصياغة الفنية
في
خطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم ) في استقبال شهر رمضان أنموذجاً
د مرتضى الشاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، وبه نستعين ، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى آله وصحبه الميامين .
مدخل :
تشتمل خطبة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في فضل شهر رمضان وأعماله على كثير من المضامين الفكرية والإرشادية للمسلمين خاصة وللإنسانية عامة ، وهي تحمل في افكارها التوصية الرسالية العامة التي تؤكد على فضيلة شهر رمضان الكريم بوصف فريضة الصوم من الفرائض الالهية والواجبة ؛ لما له من أفضلية وقدسية على باقي الشهور ، وقد أكّد القرآن أفضليته وأهميته ، كما جاء في قول الحق عزّ وجلّ ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) البقرة / 185
وأيضاً في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) البقرة / 183
إنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخطب العرب قاطبة ، وتعدّ خطبه من أنواع النثر الفني في عصر صدر الإسلام ، ولم تكن خطبه مواعظ فحسب ، بل كانت أيضاً تشريعاً وتنظيماً لحياة هذه الأمة ، ومن أسباب ازدهار الخطابة في صدر الإسلام في ذلك نوجز بعض النقاط المهمة وهي :
1- الحاجة إلى تأييد الدعوة الإسلامية.
2- تشجيع الإسلام للوعظ والإرشاد .
3- الحاجة إلى تحميس الجنود في الجهاد .
4- حرية القول والقدرة على التعبير .
5- وجود المناسبات الدينية الإسلامية المتعددة التي تتطلب الخطابة مثلاً صلاة العيدين وصلاة الجمعة وصلاة الجماعة ، وغير ذلك .
وهذه الخطبة التي نحن بصددها في استقبال شهر رمضان للتهيئة لهذا الشهر المبارك الذي له مكانة خاصة في نفوس المسلمين هذه المكانة تستوجب الطاعة لأوامر الله سبحانه وتعالى حسب توصيات الرسول الكريم في إفهام أحكامه الشرعية للناس فكانت خطب الرسول ورسائله وأحاديثه من قول وفعل وتقرير تمثل ابرز موروث له على جانب الفن القولي - لا سيما - النثر الفني ، وخطبه نوع أنواع النثر الفني الذي ازدهر وانتشر بفضل أفكار الإسلام ومضامينه الجديدة التي جاء بها القرآن الكريم ، قيل إنّ الرسول قد خطبها في آخر جمعة من شعبان في الاستعداد لقدومه ، تتضمن جوانب تركيبية ودلالية كثيرة ومختلفة تشكل نقطة إبداع في الصياغة الفنية على مستويات مختلفة .
الجوانب التركيبية :
خاطب الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الناس عموماً في خطبته عبر وسائل من الصياغات اللغوية والدلالية ، مستعملاً أساليب متنوعة ، مثل أساليب الطلب ؛ لأجل حشد الناس والتهيئة لأمر مقبل عليهم وهو صوم شهر رمضان المبارك وأول هذه الأساليب :
1- أسلوب النداء الخطابي المباشر بصيغة ( أيّها الناس ) في مخاطبة الناس عموماً بالصيغة الإنسانية العامة وليس الخاصة فلم يقل ( يا أيها المسلمون أو يا أيها المؤمنون ) ؛ لكي يكون خطاباً عاماً لكل الأجيال ولكل العصور ، ودرساً في الوعي الفكري العام لغالبية الناس وليس للمسلمين أو المؤمنين بالخصوص أو الأمة السلامية خاصة بل للعالم اجمع ؛لأنّ الدين الإسلامي دين إسلامي شمولي لكلّ الناس في الكرة الأرضية كما جاء الحديث المأثور عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كشف وظيفة الصوم من الناحية الصحية ( صوموا تصحّوا ) لاحتوائه الصحة المضمونة لكل الأجساد وهذا تنبيه وليس خاصاً بفئة .
وقد استعمل تركيبة ( أيّها ) وهي تركيبة مكونة من أداة النداء المحذوفة ، وقد حذفت للتخفيف فضلاً عن أنّ المخاطبين هم لا يبعدون أكثر من مساحة مسجد الرسول في المدينة المنورة وهم أقرب إليه وفي أجواء مسجده العبادي و( أيّ ) مضافة إلى ( ها ) التي تفيد التنبيه وهذه التركيبة لا تستعمل إلا في نداء الأسماء المعرفة بـ( أل التعريف ) فنقول : يا أيّها المواطن للمذكر ، ويا أيّتها المواطنة للمؤنث وهكذا .
2- أسلوب الأمر ؛ لأجل تحقيق الأوامر الإلهية الحقيقية مباشرة دون تراجع أو تباطؤ أو تكاسل بصيغته المعروفة مثل صيغة فعل الأمر كقوله : ( فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه ، فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم ...)
وقوله ( واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه )
وقوله ( وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم )
وقوله ( ووقّروا كباركم )
وقوله ( وارحموا صغاركم )
وقوله ( وصلوا أرحامكم )
وقوله ( واحفظوا ألسنتكم )
وقوله ( وغضّوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم ، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم )
وقوله ( وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم )
وقوله ( وتوبوا إلى الله من ذنوبكم )
وقوله ( وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم ، فأنّها أفضل الساعات ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده ، يجيبهم إذا ناجوه ، ويلبيهم إذا نادوه ، ويعطيهم إذا سألوه ، ويستجيب لهم إذا دعوه )
وقوله ( إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم ، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنا بطول سجودكم )
وقوله ( اعلموا أنّ الله اقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين ... ) ، ويعدّ استعمال صيغة ( اعلموا ) في الاستعمال من الصيغ القديمة الثابتة ،وهي من الأطر الحجاجية في الأنباء بالعلم والمعرفة ، وهي صيغة معتاد عليها في الاستعمال تتضمن مقتضيات معنوية مدارها على أحداث التنبيه إلى جلالة المقال ورفعة العلم المقدم كما يقال .
وكذلك نجد أسلوب الأمر في قوله : ( اتقوا النار ولو بشِق تمرة ، اتقوا النار ولو بشربة من ماء )
وكذلك قوله : ( إنّ أبواب الجنة في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عنكم ، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم ، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم ) ، وكلّ ما ورد من مواضع أسلوب الأمر ينطوي على الأمر الحقيقي الصادر من مرتبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )ومنزلته ، وهي مرتبة قيادية عليا إلى الناس جميعاً لكي يعملوا حسب تكليفهم الشرعي .
3- أسلوب الدعاء :
وردت صيغة الفعل الماضي ( عزّ وجلّ ) في قوله ( فأنّها أفضل الساعات ينظر الله - عزّ وجلّ - فيها بالرحمة إلى عباده ) ، وصيغة الفعل الماضي ( تعالى ) في قوله ( اعلموا أنّ الله - تعالى ذكره - ) وهذه من عبارات التنزيه لله سبحانه وتعالى تشتمل على مواطن التقديس لله .
أسلوب الشرط :
إنّ البنية الشرطية تقتضي تعليق ما يقتضي به التركيب الشرطي على النواة الإسنادية تعليقاً تلازمياً يجعل الأول من أشراط المعنى الثاني ، والعكس صائب وهذا يدعو إلى التفاعل في خطابية الجمهور ؛ لما يحمل من حجاجية ، ويعدّ وسيلة إقناع يساعد على التأثير إذ تعدّ البنية الشرطية من الأطر الحجاجية التي يستعملها الخطيب ، وقد ورد الشرط في الخطبة في مواضع مختلفة :
1- الشرط بأداة شرطية غير جازمة :
استعمال ( إذا ) وهي ظرف لما يستقبل من الزمان في قوله : ( يجبيهم إذا ناجوه ، ويلبيهم إذا نادوه ، ويعطيهم إذا سألوه ، ويستجيب لهم إذا دعوه )
وقوله :( فإنّ الله يهب ذلك الأمر لمن يحمل هذا اليسير، إذا لم يقدر على أكثر منه ) وزمنها سياقي لانها تعبر عن معنى وظيفي فقط .
وكذلك استعمال ( لو) في دلالتها الوظيفية والتي تحمل خصائصها الوظيفية في أسلوب التمني إلى أسلوب الشرط كما في قوله : ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ، اتقوا النار ولو بشربة من ماء ) ، فضلا عن دلالتها الزمنية هنا للحاضر والمستقبل
2- الشرط بأداة شرطية جازمة :
وهو استعمال ( من ) في دلالتها العامة على العاقل لان هذه من الأدوات التي تتغير دلالتها الوظيفية حسب تريب جملتها والسياق التي ترد فهي أصالة تستعمل اسما موصولا وقد تأتي اسماً استفهاماً وايضاً اسماً للشرط الجازم كما ورد في قوله ( من فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ، ومغفرة لما مضى من ذنوبه ) وقد كررت هذه الأداة تتابعاً في قوله : ( مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ ،
وَ مَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ خَفَّفَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ ،
وَ مَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ،
وَ مَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ،
وَ مَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ ،
وَ مَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ،
وَ مَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلَاةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ ،
وَ مَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ ،
وَ مَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللَّهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ ،
وَ مَنْ تَلَا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ )
وفي استعمال هذه الأداة بواجبها الشرطي الذي يقترن حصول تحقيق الجواب بوجود فعل الشرط شيء من الالتزام الفعلي ؛ لما تشتمل على دلالة مخاطبة العقلاء فضلاً عن ذلك أنّ الجملة الشرطية بالرغم من كونها جملة خبرية إلا أنّها تحمل في طياتها أوامر تعدّ فيها الجمل إنشائية أو تؤول بالإنشاء.
3- الشرط بدون أداة :
ويحصل هذا النوع في استعمال فعل الأمر وهو فعل الشرط غالباً ، ويكون جوابه فعل مضارع مجزوم كقوله :
( وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم ) ويعدّ هذا التركيب في البلاغة العربية من الصيغ الإنشائية حالها حال الأساليب الطلبية ؛ لما تشتمل على طلب ؛ لأنّ فعل الأمر يدلّ على القطع ، أما صيغة المضارع فيدل على التردد أو احتمال الوقوع لا القطع به .
أسلوب السؤال والجواب :
ومن الأطر الحجاجية التي أتيحت لها الخطابة في صدر الإسلام خطاب السؤال والجواب مشافهة ، وقد يبدو واضحاً في خطب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة من بعده ، وهذا دليل حرية الرأي في الاستفهام المباشر عن الأشياء المجهولة ؛ لأجل الاستبصار وزيادة المعرفة والاطمئنان القلبي وينبو عن حدود التلاقي بين السائل والمجيب القائم على التلازم أو التعاقب المعرفي في حين تكاد تخلو خطب العصور اللاحقة من هذا الشيء على الرغم من اقترابها من عصر التدوين ، ويمكن أن نتلمس هذا الخطاب المباشر القائم على حجاجية السؤال والجواب الشفوي كما في قوله : ( 000 قيل : يا رسول الله ، فليس كلّنا يقدر على ذلك .
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، اتقوا النار ولو بشربة ماء ، فان الله يهب ذلك المر لمن عمل هذا اليسير إذا لم يقدر على أكثر منه ....
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقمت ، فقلت : يا رسول الله ، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟
فقال : يا أبا الحسن ، أفضل الأعمال الورع عن محارم الله )
أسلوب التقديم والتأخير :
1- تقديم ماحقه التأخير :
الجار والمجرور(الضمير) ( إليكم ) في قوله ( أنّه قد أقبل إليكم شهر الله )
وقوله ( وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم ، وعما لا يحل الاستماع اله أسماعكم )
وقوله ( وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء )
وأيضاً ورد ( فيه ) في قوله ( وجعلتم فيه من أهل كرامة الله ، أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ، ودعاؤكم فيه مستجاب )
وفي قوله ( وَ مَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَ مَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَ مَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَ مَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَ مَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلَاةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ ، وَ مَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ ، وَ مَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللَّهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ ، وَ مَنْ تَلَا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ .)
وكذلك ( فيها ) في قوله ( فأنّها أفضل الساعات ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده )
وكذلك ( عنها ) في قوله ( وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنا بطول سجودكم )
( له) في قوله ( ... كان له بذلك عند الله عتق نسمة ) ( ... كان له جوازا ) ، ( وَ مَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ) وقوله ( وَ مَنْ تَلَا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ .)
وكذلك الجار والمجرور( الاسم الصريح ) في قوله ( واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه )
والظرف ( عند ) في قوله ( ... كان له بذلك عند الله عتق نسمة ) ، فكل ما ورد من تقديم من الجار والمجرور يفيد أسلوب القصر ، لأنّه تقديم ما حقه التأخير وهو نوع من أساليب التوكيد في الجملة العربية .
2- تقديم جواب الشرط :
أ- في سياق ( إذا ) في قوله ( يجيبهم إذا ناجوه ، ويلبيهم إذا نادوه ، ويعطيهم إذا سألوه ، ويستجيب لهم إذا دعوه ) ، وهنا جاء التقديم من أجل مراعاة الفاصلة وما يعرف بالسجع في نهاية الفقرة أو العبارة للإشعار بشيء من الإيقاع داخل الجمل والعبارات القصار .
وكذلك يقدم الجواب لأهميته كما في قوله ( فإنّ الله يهب ذلك الأجر لمن عمل هذا اليسير إذا لم يقدر على أكثر منه )
ب- في سياق ( لو ) في قوله ( اتقوا النار ، ولو بشق تمرة ، اتقوا النار ، ولو بشربة من ماء ) هنا التقديم جاء للتخويف من النار بطريقة أسلوب الترهيب والترغيب معاً فأبعدوها عنكم بجزء متواضع من التمر أو بنفس واحد من الماء .
أسلوب الحذف :
تحذف بعض العناصر للتخفيف مثل أداة النداء وهمزة الاستفهام وحروف الجر ، وربما يكون الحذف مفهوماً من السياق فيما يأتي :
1- حذف أداة كحذف أداة النداء في تركيب ( أيها الناس )
2- حرف الجر من ( أن ) الناصبة في قوله ( فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه ... أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين ، وأن لا يروعهم بالنار ... فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عنكم ، ... فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم ... فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم )
3- حذف فعل الشرط ( كان ) وهو الفعل الماضي الناقص في سياق ( لو ) الشرطية غير الجازمة وهي حرف امتناع لامتناع والتي تفيد معنى الاستحالة لكنها هنا خرجت إلى معنى التمني الممكن حصوله وهذا من أسرار استعمال الأداة ( لو) في هذا السياق كما قوله ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ، واتقوا النار ولو بشربة من ماء )
أسلوب التوكيد :
يستعمل أسلوب التوكيد لتقوية المعنى وتثبيت الأمر وإلقاء الحجة على المخاطب لهذا يشيع في الخطب الدينية ، وهو كثير الاستعمال في الإقناع ؛ لما يحمل من الأثر والتأثير في الأخر، وهو على أنواع منها ما ورد في هذه الخطبة :
1- الحروف غير الزائدة التي تفيد التوكيد :
أ – ( إنّ ) الحرف الشبه بالفعل ويأتي في بداية الجملة دائما وقد ورد أكثر من مرة في قوله ( إنّه قد أقبل إليكم ...فإنّ الشقي من حرم غفران الله ... فإنّها أفضل الساعات ... إنّ أنفسكم مرهونة ...فإن الله يهب ذلك الأمر ... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة )
ب-( أنّ ) الحرف الشبه بالفعل ويأتي في وسط الجملة لكي يكوّن لنا مصدراً مؤولاً يكون له موضع أعرابي يعود على قبله كما في قوله ( اعلموا أنّ الله اقسم بعزته ... ) فالمصدر المؤول من جملة( أنّ الله أقسم ) في محل نصب مفعولين للفعل ( علموا )
ت- ( قد ) حرف توقع وتحقيق يؤكد الفعل الماضي فقط كما في قوله ( إنّه قد أقبل إليكم ... )
ث- ضمير الفصل ( هو ) كما في ( شهر هو عند الله ) جاء حصراً بين المبتدأ والخبر .
2- التوكيد بالقسم :
بالفعل ( أقسم ) كما في قوله ( اعلموا أنّ الله أقسم بعزته ... )
3- التوكيد بالتكرار
1- ورد التكرار في تكرار الأساليب الطلبية مثلاً تكرار صيغة النداء( أيها الناس ) ، لأجل المحاججة في مخاطبة وتنبيه ، وورد التكرار في صيغة فعل الأمر في أسلوب الأمر مثلاً الفعل ( اتقوا ) في قوله :( اتقوا النار ولو بشق تمرة ، اتقوا النار ولو بشربة من ماء ) والفعل ( أسألوا ) في قوله : ( إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عنكم ، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها ، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلها عليكم )
2- تكرار في استعمال أدوات الشرط :
مثلا( إذا ) وهي ظرف لما يستقبل من الزمان
و( لو ) الشرطية غير الجازمة وهي حرف امتناع لامتناع .
و( من ) الشرطية الجازمة التي تفيد العاقل
3- تكرار في استعمال مفردات وعبارات معينة :
مثلاَ استعمال مفردة ( أفضل ) على صيغة افعل التفضيل وتكرارها لأهميتها في الكلام
وأيضاً تكرار عبارات مثلاً في قوله ( يوم يلقاه )
وأيضاً في قوله ( فيما سواه من الشهور ... في غيره من الشهور )
الجوانب الدلالية :
لكل نص أدبي شعري أو نثري له مفاتيح دلالية وهي مضامين عامة يتعرف عليها المتلقي ، وبما إنّ الخطابة فن حجاجي غايته الإقناع والتأثير ، فلابد من الاستعانة بأساليب فن الحجاج ومنها :
1- استعمال أسلوبي الترغيب والترهيب :
أ- أسلوب الترغيب : ذكر المضامين الفكرية التي تشجع الإنسان على الصوم بشكل عام .
- أفضلية شهر رمضان والدعاء فيه :
( إنّه قد اقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة ، شهر عند الله أفضل الشهور ، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي ، وساعاته أفضل الساعات ... وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم ، فإنها أفضل الساعات ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده ، يجيبهم إذا ناجوه ، ويلبيهم إذا نادوه ، ويعطيهم إذا سألوه ، ويستجيب لهم إذا دعوه ) وقد استعمل صيغة اسم التفضيل للدلالة على أفضلية هذا الشهر لما تحمل هذه الصيغة من مبالغة في المدح كما جاء في قوله وهو يردد ( أفضل ) أكثر من مرة في مدح الشهر والثناء عليه وتعد صيغة افعل التفضيل وسيلة مدح وثناء في ترغيب المتلقي لأمر ماء .
- منزلة الصائم عند الله :
( هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله ، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله ، أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ، ودعاؤكم فيه مستجاب ، ... ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده ، يجيبهم إذا ناجوه ، ويلبيهم إذا نادوه ، ويعطيهم إذا سألوه ، ويستجيب لهم إذا دعوه )
- الترغيب في عمل بعض الأعمال :
1-إعطاء الصدقة ( وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم )
2-توقير الكبير ( ووقروا كباركم )
3-ارحام الصغار ( وارحموا صغاركم )
4-وصال الأرحام ( وصلوا أرحامكم )
5-حفظ اللسان ( وأحفظوا ألسنتكم )
6-غض البصر والسمع ( وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم ، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم )
7-التحنن على الايتام ( وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم )
8- الدعاء بطلب التوفيق لصيام رمضان وتلاوة القرآن ( فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه )
9- الدعاء بطلب التوبة ( وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم )
- جزاء إفطار الصائم :
( من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة ، ومغفرة لما مضى من ذنوبه )
- ضمان الجواز على الصراط :
( من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازاً على الصراط يوم تزل فيه الأقدام )
- تخفيف الحساب :
( ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه )
- كفاية غضب الله يوم اللقاء :
( ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه )
- إكرام الله المؤمن يوم اللقاء :
( ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه )
- وصال الله المؤمن يوم اللقاء :
( ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه )
- كتابة الله للمؤمن بالبراءة من النار :
( من تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار )
- زيادة الثواب أضعافاً :
( من أدّى فيه فرضا كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور )
- تثقيل ميزان العبد بالحسنات :
( من أكثر فيه من الصلاة عليّ ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين )
- أجر ختم القرآن :
( من تلا آية من القران كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور )
- أفضل الأعمال :
( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقمت فقلت : يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟
فقال : يا أبا الحسن ، أفضل الأعمال الورع عن محارم الله )
ب-أسلوب الترهيب : ذكر المضامين التي تحذر الناس من سوء العاقبة بشكل عام .
- تحريم غفران الله :
( فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم )
- التذكير بيوم القيامة بجوعها وعطشها :
( واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه )
- قطع رحمة الله :
( من قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه )
ج- استعمال أسلوبي الترغيب والترهيب معاً :
كما ورد في قوله :( إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم ، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفوا عنها بطول سجودكم ، واعلموا أنّ الله اقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين )
وكذلك قوله :( إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسلوا ربكم أن لا يغلقها عليكم ، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا أن لا يفتحها عليكم ، والشياطين مغلولة فاسألوا أن لا يسلها عليكم )
وأيضاً قوله :( قيل يا رسول الله فليس كلنا يقدر على ذلك .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، اتقوا النار ولو بشربة من ماء ، إنّ الله يهب ذلك الأمر لمن عمل هذه اليسير إذا لم يقدر على أكثر منه )
2- فنون التصوير الفني :
1- التشبيه البليغ :
هو واحد من أنواع التشبيه يحصل في الكلام من دون أداة تشبيه ، بل يقترن بوجود طرفي التشبيه من مشبه ومشبه به ، والغرض منه تثبيت صفة ملازمة للمشبه كما ورد في قوله ( أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة ) ، إذ شبه أنفاس الصائمين في يقظتهم ونومهم كتسبيح الخلائق والكائنات ، وهي لا تقل أهمية عن الكلام والأصوات المنبعثة من العوالم في تنزيه الله سبحانه وتعالى ، وكذلك نوم الصائم في راحته ؛ لأنّه أشبه بعبادة مفروضة كالفرائض الأخرى مثل الصلاة والصوم والصدقة والزكاة والحج ؛ لأنّ الصائم وإن خلد إلى الراحة والنوم وهو شيء طبيعي فإنّه يحصل للصائم في سكون أعضائه لما تحملت من تعب ونصب والأعمال الشاقة خلال ساعات لنهار أثناء الصوم .
وأيضاً قوله ( واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه ، جوع يوم القيامة وعطشه ) ، وهذا تشبيه مماثل بطريقة التوصيف مما يعاني الصائم من اضطرابات باطنية وتقلبات ظاهرية من تعب وتيبس في الحلقوم والشفاه طيلة اليوم فضلاً عن غريزتي الجوع والعطش ؛ بسبب العمل أو الحر بتأثير أشعة الشمس وغير ذلك من الأمور التي يتعرض لها الصائم بسبب طول النهار وساعاته وهو أشبه بيوم القيامة إذ يمر الإنسان بالجوع والعطش يومئذ ينشغل بنفسه وانتظار دوره في المساءلة والحساب بسبب طوله .
2- الصورة الاستعارية :
وهي من أجمل الصور البيانية في تشبيه الأشياء العاقلة وغير العاقلة ، وإضفاء عليها شيء من الحس والشعور والجمال الفني وبث روح الحياة والحيوية مما جعلها صور حركية تتعامل معها ، كما تتعامل مع إنسان مثلك لما من شعور وإحساس مثلاً كأنسنة الأشياء غير العاقلة في المجاز الاستعاري مثل أنسنة الشهر في قدومه للناس ، كما يقبل الإنسان حاملاً معه سلال الخير من البركة والرحمة والمغفرة أو الكائن المتحرك مثل الحيوان أو الأشياء السائلة مثل الماء الجاري أو المطر المنهمر كما قوله ( أيّها الناس أنّه قد أقبل إليكم شهر رمضان بالبركة والرحمة والمغفرة )
ومن الأمثلة الأخرى في المجاز الاستعاري قوله ( إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم ، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنا بطول سجودكم ) إذ وصف الأنفس بأنّها مقيدة بالأعمال ، لأنّها مرهونة مثل الرهان الذي يجعل صاحبه مقيد بشرطه ملزم بتنفيذه فلا يفك هذه القيود والرهان إلا بالاستغفار وهذه وسيلة من وسائل التوبة ، وكذلك ظهور الناس تلك الأجساد بما فأنها ثقيلة بسبب الأعمال ؛ ولأنّها محملة مثل الأوزار الثقيلة فلا تخفف إلا بطول السجود والتواضع لله ، والسجود هو أعلى مراتب التجلي في العبودية لله سبحانه وتعالى .
3- الصورة الكنائية :
وهي الأصل الثالث من أصول البيان - من تشبيه ومجاز واستعارة وكناية - وأحد الطرق في الدلالة على المعاني ، وفيها يكنى عن الأشياء بمرادف لها وفي دلالتها مثل كناية الكريم السخي بالبحر، وقد جاء في خطبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هذا القبيل بشكل قليل مثل كنايته عن تحرير الإنسان من الرّق والعبودية بعتق نسمة والنسمة أصغر كائن حي له روح ، وقد وصف الله بأنّه بارئ الذروالنسم بمعنى الخالق وهي في دقتها ؛ لأنّها صغيرة الحجم .
وأيضاً كنايته عن جهنم بالنار ؛ لأنّ النار رمز لجهنم والنور رمز للجنة بالدلالة الاعتبارية كما في قوله ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ، اتقوا النار ولو بشربة من ماء ) ، وكذلك كنى عن أقل الطعام بشق التمرة وهو من جزئها أي نصفها في إفطار صائم ؛ لأجل الحصول على الأجر في هذا الشهر الكريم ، وكذلك كنى عن أبواب جهنم بأبواب النيران كما في قوله (وأبواب النيران مغلقة ) .
4- المقارنات الفنية :
هي أشبه بالتضاد أو هي الثنائيات الضدية سواء أكانت على المفردة أم على مستوى التركيب و في البلاغة العربية يختص علم البديع بهذه المقارنات اللفظية والمعنوية في فن الطباق والمقابلة ويقعان ضمن المحسنات المعنوية باعتبار أنّ علم البديع الذي يختص بتزيين الكلام بحلية لفظية ومعنوية إذ يقسم على قسمين :
القسم الأول : المحسنات اللفظية وتختص باللفظ مثل الجناس والسجع وغيرهما .
القسم الثاني : المحسنات المعنوية وتختص بالمعنى مثل الطباق والمقابلة وغيرهما .
ويمكن أن نشير إلى تلك المقابلات الفنية :
1- السعيد والشقي كما جاء في قوله ( فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه ، فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم ) ، وإن لم يذكر بجانب الشقي إلا أنّ المتلقي يلمح إليه بمعانيه الدالة على السعيد الموفّق لصيام شهر رمضان وتلاوة كتابه .
2- جوع وعطش الصائم في شهر رمضان في الدنيا مقابل جوعه وعطشه يوم القيامة في الآخرة كما في قوله ( واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه ) وهي مقارنة بين حالتين دنيوية وأخروية ومخاطبة للجانب النفسي التنبيه والتذكير والترهيب
3- توقير الكبير والإشفاق على الصغير ( وقروا كباركم وارحموا صغاركم )
4- غضّ البصر والسمع ( وغضّوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم ، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم )
5- التحنن على أيتام الناس يعادل تحنن الناس على أيتامكم ( تحننوا على أيتام الناس ، يتحنن على أيتامكم ) وهو اشعار بالجزاء الدنيوي في مستقبل الأيام لهذا العمل من أجل العمل الجاد والحث في الدنيا .
6- القيد والفكّ والتثقيل والتخفيف كما في قوله ( إنّ أنفسكم مرهونة بإعمالكم ، ففكوها باستغفاركم ، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم )
7- أبواب الجنان / مفتحة = عدم الإغلاق ، وأبواب النيران / مغلقة = عدم الفتح كما في قوله :( إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة ، فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم ، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم )
8- أغلال يد الشيطان ( مقيدة ) = عدم التسليط كما في قوله ( والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم )
5- بنية التوازي والتوازن :
إنّ السجع هو تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد وهو سمة مميزة للنثر في مقابل القافية في الشعر فالأسجاع في الأنواع النثرية والقوافي في الشعر وتكاد تخلو خطب الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من سجع الكهان الذي يؤدي إلى التكلف والتصنع وهذه طبيعة تتصف بها خطب عصر صدر الإسلام إلا ما جاء عفويا فالفقرات تنساب كالماء فخطبه عموما مرسلة غير مقيدة إلا أنّ بعض الفقرات والعبارات والجمل ورد السجع فيها بطريقة عفوية تشكل نوعا من التوازي والتوازن في البنية الإيقاعية يمكن أن نلاحظ ذلك فيما يأتي :
( فأسألوا الله ربكم بنيات صادقة ، وقلوب طاهرة )
تتساوى في الصيغة ( فاعلة ) والسجعة ( التاء المدورة )
وكذلك ( أن يوفقكم لصيامه ، وتلاوة كتابه )
تتساوى في الصيغة ( فعاله ) والسجعة ( الهاء )
( وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ،
ووقروا كباركم ،
وارحموا صغاركم ،
وصلوا أرحامكم ،
واحفظوا ألسنتكم ،
وعظوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم ،
وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم ،
وتحننوا على أيتام الناس ، يتحنن على أيتامكم ،
وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ،
وارفعوا إليه أيديكم ،
بالدعاء في أوقات صلاتكم )
إذ تتساوى الكلمات بالصيغة فيما بينها والسجعة ( الميم مع حرف الروي الكاف) رغم طول الفقرة أو قصرها
وأيضاً قوله :
( يجيبهم إذا ناجوه ،
ويلبيهم إذا نادوه ،
ويعطيهم إذا سألوه ،
ويستجيب لهم إذا دعوه )
على الرغم من قصر العبارات فقد تتساوى بالسجعة الهاء مع حرف الروي الواو من أجل التوازن في بنية الإيقاع .
وكذلك قوله ( إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم
ففكوها باستغفاركم ،
وظهوركم ثقيلة من أوزاركم ،
فخففوا عنها بطول سجودكم )
تتساوى بالسجعة نفسها
وأيضاً في قوله( إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة
فاسألوا ربكم
أن لا يغلقها عنكم
وأبواب النيران مغلقة
فاسألوا ربكم
أن لا يفتحها عليكم
والشياطين مغلولة
فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم )
قد تتساوى الفواصل بنفس الكلمة من خلال تكرار التراكيب وبنفس السجعة
وكذلك قوله ( اعلموا إنّ الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين ،
وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين )
قد تطول الفقرة وتتساوى بالصيغة ( فاعلين ) وسجعة واحدة وروي واحد ( الياء والنون )
وكذلك الاستفادة في بنية التوازي والحفاظ على بنية إيقاع واحدة في تكرار التراكيب أو المفردات مثلاً :
( ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه
ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه
ومن وصل فيه رحمه وصله برحمته يوم يلقاه )
( ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور ...
ومن تلا فيه آية من القران كان له مثل أجر من ختم في القرآن في غيره من الشهور )
مسك الختام
وهذا يدل - كما قيل عن صياغته الفنية - على اتساع معناه وأحكام أسلوبه في غير تعقيد ولا تكلف وهو نوع من الخصائص التي انفرد بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، حتى قيل عنه (( ومن المحقق أنّ الرسول كان في ألفاظه – كما كان في حديثه - لا يستعين بخلابة ولا تزويق وقد برأت ألفاظه من الأغراب والتعقيد والاستكراه ، وهي مع ذلك الفظ جزلة لها بهاء ورونق ، تعمر بها القلوب والصدور وترتاح إليها الأسماع والأفئدة ، فتجتمع لها النفوس المتباينة الأهواء وتساق إليها بأزمتها ، اذ تلتحم بمعانيها وما تدعو إليه النفوس من سبيل الرشاد ، وهي – بلا ريب - مثل أعلى في البراعة والدقة ونقصد دقة الحس ولطف الشعور ))
وفي نهاية المطاف لا بّد من الإشارة إلى أهم الخصائص الشكلية والفنية التي تميزت بها خُطبُ صدر الإسلام بشكل عام ، وهي معروفة لدى المتخصصين بفن الخطابة النثري :
1- البدء بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله ( صلى الله عليه وسلم )
2- ظهور أثر الإسلام واضحاً فيها .
3- ميل الألفاظ إلى الرقة والعذوبة .
4- تماسُك أجزاء الخطبة .
5- تحرر الأساليب من المحسنات المتكلفة .
6- الإقناع بترابط الأفكار وتسلسلها .
7- الاقتباس من القرآن والحديث .
8- السهولة والوضوح في المعانى والألفاظ .
وما نجده في خطبة الرسول من السهولة والوضوح والرقة والعذوبة وترابط الأفكار وتسلسلها وخلوها من الأساليب المتكلفة
كالجناس وغيره هو دليل على تأثر الخطابة الإسلامية بأجواء القرآن الكريم بألفاظه ومفرداته وأساليبه .
د مرتضى الشاوي
2011م = 1432هـ
روافد المقالة – خطبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
سند ومتن الخطبة- كتاب عيون الأخبار للشيخ الصدوق ( رض ) :
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرِّضَا ، عَنْ آبَائِهِ ، عَنْ عَلِيٍّ ( عليهم السلام ) ، قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) خَطَبَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ :
" أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَ الْمَغْفِرَةِ ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي ، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ ، هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ ، أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَ قُلُوبٍ طَاهِرَةٍ أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ ، وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَ عَطَشِكُمْ فِيهِ جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ ، وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَ مَسَاكِينِكُمْ ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ ، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ ، وَغُضُّوا عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ ، وَعَمَّا لَا يَحِلُّ الِاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ ، وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلَاتِكُمْ ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ ، وَيُلَبِّيهِمْ إِذَا نَادَوْهُ ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ ، وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ الْمُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ وَأَنْ لَا يُرَوِّعَهُمْ بِالنَّارِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ .
أَيُّهَا النَّاسُ : مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَيْسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ .
فَقَالَ ( صلى الله عليه و آله ) : اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ ، فإنّ الله يهب ذلك الأجر لمن عمل هذا اليسير ، إذا لم يقدر على أكثر منه .
يا أَيُّهَا النَّاسُ : مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ ، وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ خَفَّفَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ ، وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلَاةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ ، وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللَّهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ ، وَمَنْ تَلَا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ .
أَيُّهَا النَّاسُ : إِنَّ أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لَا يُغَلِّقَهَا عَنْكُمْ ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لَا يُفَتِّحَهَا عَلَيْكُمْ ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لَا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ .
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) : فَقُمْتُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ ؟
فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ ، أَفْضَلُ الْأَعْمَال في هَذا الشَّهرِ ، الوَرَعُ عَن مَحَارِمِ اللهِ ))
د مرتضى الشاوي