الخميس، 1 سبتمبر 2011

التجاذب الطبيعي مع الذات العاقلة في قصيدة ( جرح خضيب ) للشاعر ثائر الحيالي


التجاذب الطبيعي مع الذات العاقلة
في قصيدة ( جرح خضيب ) للشاعر ثائر الحيالي
 بقلم د . مرتضى الشاوي
      تتخذ القصيدة الطابع الحسّي المباشر في رسم  مشاهد التصوير الفني ، ويبدو ذلك من عتبة العنوان الموسوم بـ( جرح خضيب ) بمعنى مخضوب ، وقد جاءت الصفة المشبهة بمعنى اسم مفعول من باب التحويل في الصيغ الصرفية ؛ لأجل الكثرة والمبالغة في الوصف ، كما يتغير لون الكف بالحناء إلى أن يصبح لونه أحمر.
     هذا العنوان يشكل بؤرة التداعيات الممتدة بالخيط السردي للمعاني التي أراد الشاعر الإشارة إليها عبر مزيج من التساؤلات الاستفهامية ، قد تمركزت فيها أبعاد وسائل المحاججة في الكشف هن هوية ذات الجرح النازف المخضوب ، كأنّه الحناء في حمرته .
     بدأ الشاعر قصيدته بديباجة المجاز الاستعاري في توصيفه  الخبري ، لقد شخّص المساء فألبسه ثوب الغروب ؛ ليعلن للمتلقي أنّ الجرح النازف في داخله في حالة استمرار لا ينقطع ، وقد تجلبب مثل الإنسان في لبسه إذ تجلبب المساء برداء المغيب ؛ بوساطة الحمرة الجامحة بصوتها ، كأنّه صوت الفرس مقاربة بطهر دمّ الشهادة في سبيل الله ، فتعلن الحضور بلا مكر ومخاتلة عن اقتراب سواد الليل في أوّله عن  الأعداء ، كأنّهم العقارب الميتة تتخطى في موتها كعقارب الساعة في انتظامها كما في قوله :
"  تجلبب المساء  برداء المغيب
الحمرة الصاهلة  طاهرة كدم الشهيد
تعلن بلا مواربة
عن قرب  تجهم الليل
وموت العقارب في خطو الساعة الرتيب "
        لأنّ مساحة في الوطن أكبر مما يتصوره الإنسان ؛  ليعيش في حالة الانبهار فإعلانه للصوت الآخر هو كشف حالة الجرح المخضوب في صدره ، مقاربة بجرح الوطن النازف الممتد من الشمال ؛ ليشكل بداية الجرح المنتهي إلى الجنوب ، إلا أنّ الجرح  الخضيب للشاعر قد فاق في النزف ، جراح الوطن وهي مبالغة فنية في حجم الأسى والحزن ، وهو إغراق في الوصف ؛ لأنّه يئن كصوت الحديد في تزاحمه ، وهذه تسجل للشاعر نكتة دلالية في توليد المعاني الجديدة من أجل التصريح بالانتماء النفسي والجسدي للوطن كما قال في مسك ختامه للقصيدة :
" هاك ِ صدري
واذرعيه ِ من الشمال إلى الجنوب !
تا الله لن  تحصي
غير جراح ٍ
قد فاقها في النزف .. صليل جرحي الخضيب ! "
       هذه التساؤلات المتنوعة في حجاجها تنمّ عن مفارقات خفية مبطنة ، ويتمّ ذلك باصطناع حالة التوتر الوجودي والتعبيري في معادلة تعطي للأسلوب النعبيري مذاقاً دراميا ً مغايراً تشكّل أطر أسلوب المحاججة بأدواته في الإقناع في شعرية النثر الفني على مستوى قصيدة النثر .
      وهذا دليل تأثر الشاعر بسردية الفن القصصي في وقتنا المعاصر في تتابع الأحداث والتنقل عبر وسائل النقل في أثارة المتلقي وجذبه إلى النص دون ملل ؛ لأنّ في تنقلاته يثير الدهشة وعنصر التشويق لديه .
     فأدوات التساؤلات في أسلوب المحاججة كثيرة إلا أنّ الشاعر يختار الأدوات الاستفهامية ؛ لتعبر عن مشاعره وعواطفه في نقل صورة الواقع المرير ،  فضلاً عن مخاطبته الصوت الآخر بصفاته ، وليس مباشرة كما في أسلوب النداء ( أيتها الغمامة ، أيتها اليمامة ) وأسلوب الأمر بصيغ مختلفة ( كفي ، اذرعيه = فعل أمر ، هاك = اسم فعل أمر بمعنى خذ  ) ، وهو في هذه الأساليب الطلبية يرفد القصيدة بنمطية المنلوج الداخلي في تنفيس الشاعر إضافة إلى تضمينه حواراً مع الصوت الآخر .
الأداة الأولى : ( هل ) التي تفيد تحقق الشيء وتوقعه ، فضلاً عن تكرارها في معادلة ثنائية في مقاربة بين حزن الشاعر وأشواق الإنسان الغريب والبعيد عن وطنه ؛  ليفصح الشاعر عن غربة نفسية بسبب صعوبة الحياة وأحزان الوطن ؛ لهذا السبب فالشاعر يعيش في فترة استذكار الماضي وحنين دائم ، وكأنّه في حالة الاجترار لذاته في استرداد الماضي ، فيعاتب أعباء الكلم وثقلها ؛ لأنّها لا تعبر بالشكل عن حجم المعاناة  لهذا فهو يعلن عن تمزيقه أنغام النشيد بتحدٍ نفسي كما جاء في قوله :
" هل سأجترّ ذات الحلم ؟
ويح أعباء الكَلم
أم هل سأمزق تراتيل النشيد  ؟
حزني.. وما كان حزني إلا بعض أشواق الغريب "
الأداة الثانية : ( ماذا ) التي تفيد بدلالتها عن الأشياء غير العاقلة ، لتبعث فيها حيوية الحركة ، وقد استفاد منها في حالة استذكار الأحداث في تجهم الليل وأعباء الكلم ، فيستطيب له مساءلة النفس بحالة من حالات الألم والتحسر ، إلا أنّه يبقى يعدّ خطو القادم ، وهو الأمل في حضور الصوت الآخر،  فوق هدوء الماء ، فلم يبرح من عدّ خطوات الأمل الذي لم يصرح الشاعر عن نوعية الأمل ، هل هي نفسه التواقة للماضي ، أو حنينه لعودته لمكان أو زمان ما  ، أو هي معشوقته  ؛ لأنّه اكتفى بدلالة كاف الخطاب عليها في ( خطوك ، لحنك  ) ، ولم يبرح من لحنه في غابة الأصداء في تكرارها الدائم كما ورد في قوله :
" ماذا  دهاني ...؟
لازلت أحصي خطوك ِ فوق سكون الماء .
لازلت أعزف لحنك ِ في غابة الأصداء .."
الأداة الثالثة : ( متى الزمانية ) التي أشربها بفعل الترجي في تقبل الوجع الرهيب رغم التفاعلات الحيوية عبر الأسلوب الحسي التعبيري ، متخذاً من التشخيصية مزيجاً  في نقل تلك الهموم والآلام ؛ لإضفاء على الصورة الفنية النشاط والحركة الفاعلة على الأشياء ؛ لتنتج في الفضاء الرومانسي التداولي ؛ فالشاعر يرجو أن ينتهي الوجع الرهيب في داخله في فترة زمنية محددة ، رغم ما يدور في فكر الشاعر من اصطخاب ، وهو يضج بأعلى الأصوات مع حركة دؤوبة في رأسه ، وكأنّها جلجلة أطراف الخيل في بسنبكها اثر مطاردة في سوح المعارك ،  إلا أنّ الشاعر يفصح عن غربته النفسية في حالة الانكسار ، وهو يعيش حالة موته   ، لكنه لا يستلم حتى رمسه فتشرئب منه ألف يد تطالب بالحق ليواصل التغني والكتابة في مواصلة الشعر ، وهذا دليل التحدي رغم انتهاء الصوت في الشدوّ ؛ بسبب زحام الاشتباك في مجريات الحياة ومعاناتها ، فهذا الترديد خارق للعادة في اللحن ، كأنّه شدو الطير بصوته الحزين وحنينه على أفراخه ،  إلا أنّ هذا صوت قد جفّ بسبب  الشدو المكرر في التعب والنصب مثل انقطاع الماء عن النهر لسبب ما ، انظر إلى قوله :
 " متى عساني  أكفّ عن وجعي الرهيب ..؟
تضجّ  في رأسي ..
جلجلة  طراد السنابك ..
تشرئب  لي من رمسي
ألفُ يدٍ  في زحام التشابك
جفَّ الصوت في  شدوي
خرافة ما يقال عن بكاء العندليب "
الأداة الرابعة : ( أين ) المكانية ، فالشاعر لا يكتفي بعرض التساؤلات من أجل إضفاء الطابع الحيوي عن الأشياء في حركتها الزمانية دون المكانية ، فالأزمنة تحتاج إلى أمكنة في مخاطبته نوعين من الأشياء الطبيعية :
الشيء الأول : الغمامة الحاملة معها كلّ وابل المطر المخيف ، فهي بمثابة الغمة العائمة في دلالتها الباطنية التي تحولت إلى أحزان متناثر في  أرجاء الوطن .
الشيء الثاني : اليمامة ذلك الطير الودود في حنونه على صغره من خلال البحث عن هديله إلا أنه لا يألف البيوت مثل سائر الطيور ، فالشاعر يتفاءل به ، لأنّه يمثل القصد والدليل والهداية إذا قل ماء المزن ، وربما صوته  الأخاذ هو الدليل في الوصول ،  فالشاعر ينوح شدوا وينحب تحسرا ًكما تنوح اليمامة على  هديلها  الذي أضاعته ، فقد ناسب الشاعر بين أحزانه مقاربة بأحزان الوطن بكثرتها مع  أمطار  الغمام المنتشر ، فضلاً عن نوحه ونحيبه المتسمر على فقده الشيء العزيز في ذاته الذي لم يصرح به مباشرة ، إلا أنّه وصف حالته كحالة اليمامة التي فقدت ذكرها الفحل ، لكنّه أبرز صفاته الجسدية ، بأنّه الهديل وحجمه بحجم قامة الأشجان المطوية بالكفن في فقده إياه .
      ولا يكتفي بالمخاطبة عبر وسائل النداء( أيتها ) فحسب ، بل يطلب منها أن تكفّ البحث عنه ؛ لأنّها يكيفها ملامة الآخرين في ضياعها إياه ، فقد أتعبها ترداد النحيب ، وهو في حالة البثّ النفسي مع عالم الطيور ، تشعر أنّ هناك خطاباً خاصاً يألفه الشاعر بينه وبين الأشياء ، وهو يناجيه بحسه وعواطفه رغم التعب الشديد في الصمت  كما في قوله :
"  أيتها الغمامة
التي ما أمطرت  غير أحزان وطن
أيتها اليمامة
أين الهديل ؟
فكلّ هديل ٍ لقامة الأشجان كفن
كفّي وكفاها الملامة
فقد أعياني في الصمت ترداد النحيب "
     وهل يطلب الكفّ عن الترداد في النوح الذي يقابله ترداد النحيب فحسب ؟ ، بل راح يطلب من اليمامة أن تقيس حجم المعاناة التي في صدره ، وقد استفاد من أنسنة الأشياء غير العاقلة في نقل البؤرة التشخيصية من الإنسان إلى ذلك الطير في عمل خاص ، وهو قياس حجم الأشياء بخطاه ، فالطائر لا يمتلك إلا أرجله في الخطو للقياس، فالأجنحة معدة للطيران ، لكنّ الشاعر استعمل الأذرع ؛ لأجل إضفاء الطابع التشخيصي في مجال المجاز الاستعاري ؛  ليحقق  الانسجام والتوافق مع الأشياء سواء أكانت بين الأشياء العاقلة نفسها أم مع غير العاقلة  ، فهذا العمل لا يستطيع أن يؤديه إلا الإنسان نفسه ، فكيف بالطائر الذي يمتلك شدوه وحنوه متخذاً صدره رمزاً  للإشارة إلى ذلك الوطن الجريح  من شماله إلى جنوبه ، لكنّ جراح الوطن لا تفوق جرح الشاعر بصليله في النزف ، فقد أكّد بالقسم النادر في الاستعمال ( تالله ) للمناسبة في تأبيد عدم الإحصاء والعدّ لذلك الجرح الخضيب المدمي بنزفه المستمر،  كأنّه الحناء في حمرتها ، كما جاء في قوله :
" هاك صدري
واذرعيه من الشمال إلى الجنوب
تالله لن تحصي
غير جراح
قد فاقها في النزف
صليل جرحي الخضيب "
    وفي ضوء ذلك لا بد من تسجيل لطائف الشاعر المائزة  قصيدته إذ تتمتع بانسيابية وحيوية جعل منها نصاً مفتوحاً قابلا للتأويل ، فضلاّ عن انتقائية المفردة بما فيها من جزالة في صياغة متينة .
   استفاد من التنويع التلقائي في البنية الإيقاعية في استعماله القوافي المتشابهة والمتناظرة والمتضادة تأثراً بقصيدة التفعيلة ( الشعر الحر ) ، وتبدو واضحة للقاريء لا جدوى من تمثيلها   .
   استفاد أيضا ًمن تبئير فلسفة الأصوات ، وهذه ميزة تضاف إلى الشاعر بأنّه له القدرة على التوليد وتعددها أكثر من غيرها شكلّت في القصيدة ملمحا أسلوبياً في التراكم الدلالي في الحركة والنشاط والوثبة مثلاً في :
( الحمرة الصاهلة ، خطو الساعة ، تراتيل النشيد ، خطوك فوق سكون الماء ، اعزف لحنك ، غابة الأصداء ، تضج في راسي ، جلجلة طراد السنابك ، زحام التشبك ، الصوت ، شدوي ، بكاء العندليب ، أمطرت ، ترداد النحيب ، صليل جرحي الخضيب )  
له براعة في استعمال الثنائيات الضدية بوساطة التقابل الفني :
الحمرة الصاهلة طاهرة كدمّ الشهيد
فالحمرة المشرقية التي تظهر في الأفق عند المغيب تقابل بدمّ الشهيد الأحمر القاني في دلالة اللون على مطلق الحرية والريادة وإضفاء الحياة بالعاطفة الجياشة ، لكنّ سوداوية الليل بتجهمه في حالة الحزن كأنّه تراتيل النشيد يأتي به في ثنائية أخرى يقابل فيها حزن الشاعر وشوق الغريب البعيد عن وطنه ، وهي مقابلة معنوية ربطها بوساطة تجهم الليل كما في  قوله :
" حزني .. وما كان حزني إلا بعض أشواق الغريب "
   لقد حاول الشاعر أن ينقل إلى المتلقي مظاهر الطبيعة العامة  بحركتها ، ويصهرها في قوالب لغوية ذات رموز لها دلالات مختلفة ، وقد يوحي الصوت للمتلقي إلى وقع نفسي حادٍ يتجاذب مع مواطن القوة والضعف لدى الإنسان والطبيعة الخلابة  بشكل عام ، وهو في هذه الأصوات بتردادها في حراك وتجاذب وتجاوب مع الذات العاقلة في نقل همومه ومشاعره بفيض سحري بعلاقة حميمة مع الوطن .
د مرتضى الشاوي
أيلول 2011م = شوال 1432هـ

روافد المقالة :
قصيدة ( جرح .. خضيب ! ) للشاعر المتألق ثائر الحيالي
تجلببَ المساء ُ برداء المغيب
الحمرةُ الصاهلةُ  طاهرةٌ كدمّ الشهيد
تعلنُ بلا مواربة
عن قربِ تجهّمِ الليل
وموتِ العقارب في خطو الساعة الرتيب
هل سأجترّ ذاتَ الحلم ؟
ويحَ أعباء الكَلم
أم هل سأمزقُ تراتيلَ النشيد  ؟
حزني.. وما كان حزني إلا بعضُ أشواق الغريب !
ماذا  دهاني ...؟
لا زلتُ أحصي خطوك ِ فوق سكون الماء .
لا زلتُ أعزف لحنك ِ في غابة الأصداء ..
متى عساني  أن أكفّ عن وجعي الرهيب ..؟
تضجّ  في رأسي ..
جلجلةُ  طرادِ السنابك ..
تشرئب  لي من رمسي
ألفُ يدٍ  في زحام التشابك
جفَّ الصوت في  شدوي
خرافةَ ما يقال عن بكاء العندليب
أيّتها الغمامة ..
التي ما أمطرت غيرَ أحزانِ وطن
أيُتها اليمامة ..
أين الهديل ؟
فكلّ هديل ٍ لقامة الأشجان كفن
كفّي .. وكفاها الملامة !
فقد أعياني في الصمتِ ترداد النحيب
هاك ِ صدري
واذرعيه ِ من الشمال إلى الجنوب !
تالله لن  تحصي
غيرَ جراح ٍ
قد فاقها في النزفِ .. صليلُ جرحي الخضيب !
ثائر الحيالي







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق