الثلاثاء، 30 أغسطس 2011

أثر التجربة الموسيقية في صقل شعرية تحسين عباس


أثر التجربة الموسيقية في صقل شعرية تحسين عباس*
                                 بقلم د مرتضى الشاوي
     هناك طريقتان لتقويم أيّ نص أدبي : الأولى هي الطريقة التحليلية وهي طريقة تشريح وتفكيك النص في ضوء مناهج النقد    المتنوعة ، والثانية هي الوصفية وهي طريقة شرح النص وفق منهج انطباعي عام ، والنصوص كآثار إبداعية تتمتع باستقلالية عن مبدعيها إلا أنَّ شخصية المؤلف أو الزمن أو الظروف الاجتماعية ( البيئية ) هي عوامل مساعدة قد تعيننا على فهم النص ، ولكنّها ليست النص نفسه .
     وعندما نخوض في تلقي النص الأدبي شعراً أو نثراً تتوضح الأمور الاجتماعية والقضايا المهنية وتطويع التخصص المهني داخله إذ تطفو على سطحه بارزة ، ومنها تتجلى روابط وعلاقات النص بوصفه كياناً لغوياً أو ظاهرة اجتماعية أو استجابة جمالية
ومن هنا نجد أثر الجانب الموسيقي المتمثل بالجانب المهني أو الفطري بوصفه موهبة وانعكاساته الفنية تظهر بوضوح في صقل وتشذيب مثلاً شاعرية تحسين عباس  .
      تحسين عباس ليس شاعراً وحسب ، بل هو إنسان مهني وصاحب تجربة موسيقية امتدّ عمرها بالعزف بآلتي العود والكمان منذ ولعه بهما أو تواجده في دائرة الفنون الموسيقية وإلى يومنا هذا ، وله باع طويل في حركة تجديد السلم الموسيقي .
      فضلاً عن ذلك ما يميّزه براعة مؤلفاته الموسيقية وأعماله الفنية المختلفة ومشاركاته الفنية في مجال الفن - الموسيقى والمسرح - والكتابة والتأليف في مجالات أدبية وفنية وثقافية متعددة .
     كلّ هذه الأسباب يضاف إلى تواجده الفني في نشر منجزه الفني والشعري في الصحف والمجلات التي صنعت منه فناناً ممارساً مزداناً بفيض من الحس الموسيقي والإذن الرقيقة والقلب الذي يتسع لأنغام الحياة .
        وفضلاً عن ذلك تلك الموهبة الشديدة في مواصلة حركة الفن والأدب معاً ، كلّ ذلك قد صقل تجربة تحسين عباس  وامتلاكها التهذيب والتثقيف فأصبحت تجربة ثرية بفضاءاتها ؛ لهذا السبب أمتاز أسلوب تحسين عباس بفيض من الحسّ الجمالي والعاطفي الخاص والصورة الشعرية الرقيقة والإبداع الفني على مستوى الانتقاء في اختيار المفردة اللغوية الجذابة واللغة المجازية الموحية والأسلوب المتنوع .
       حتى طغتْ على شعره ملامح التفنن والتغني بل الغنائية بحد ذاتها في تجربته الشعرية ، فالبوح الشعري هو ذاتي غنائي لا سواه بل المتتبع لشعر تحسين عباس على اختلاف ألوانه وأنماطه من عمودي ( كلاسي ) وشعر التفعيلة ( حر ) وقصيدة النثر يجد صوت الذات هو الغالب في كلّ شعره وصوت الأنا الفردية هي المؤاتية في مواطن قصائده .
     فغنائية تحسين عباس في شعره تنمّ عن موهبة عارمة وممارسة متدفقة وفكر مشحون كلّه بالعاطفة والانفعال .
   لم تكن لديه دراسة موسيقية في الفنون الجميلة  بل كان الحافز هوايته في تعلم الموسيقى ، فكان له الأثر في ترسيم وصقل تجربته الشعرية ومدى اتساعها ، وهذا أكيد بالدرجة القطعية إلا أنّ تجربته العاطفية هي الغالبة أيضاً وراء سرّ الإبداع  في شعر تحسين عباس بمناخاته الفنية الزاخرة .
     قيل لا دخان بلا نار ، فلا إبداع شعري بلا تجربة عاطفية  لهذا نراه يترجم عن تجربته العاطفية في وصف الحب في أغلب قصائده كما جاء في قصيدته ( غزل القوافي ) :
فالحبُّ إعجابٌ  وحسُّ شاعرٍ      يتلوه قولٌ  بالشعورِ     جميلُ
والعشقُ جذبٌ في النفوسٍ بريقُهُ  يتلوه   ليلٌ ساهرٌ      ونحولُ
ساءلت نفسي أيُّهم   بي ساكنٌ    رُدَّ عليّ      سؤالي المسؤول
صارحتُها  بالشعرِ فابتسمتْ له   وكأنَّها       قمرٌ ضياه   أصيلُ
فاحتار ليلٌ في النجومِ علامةً    هو      حاضرٌ أم غائبٌ  وأفولُ
فتراشقتْ   أفكارُ حلمي غيرةً   أنا في   هواها أمْ     هُناك خليلُ
فبكتْ عيوني في الهيامِ بحبِّها    ترنيمةٌ     مطروبةٌ      ودليلُ
فتغازلتْ معيَ الحياةُ وأصبحتْ   فابيّضَ     من أحداقِها التبجيلُ
فغدوتُ   أعشقُ دمعيَ بتدفقٍ   وأغارُ منه        إذا أتى التنزيلُ
فتشبَّعَ  الإحساسُ تذكيراً بها   ففقدتُ     حِسّ الحبِّ وهو سليلُ
وغدوتُ لا أدري بنفسي !    هل أنا هِيَ أم أنا نفسي ؟وتاهَ سبيلُ
يُغمى عليَّ وغفوتي صحوٌ بها     أشكو غرامي  والغرامُ عجولُ
يا أيُّها العشاقُ  يكفي لومُكم   صارَ الجنونُ     نهىً وهو حمولُ
قالتْ إذا كنتَ  الذي أحببتني   فلْنندمجْ      كيّاً  فصرتُ    أقولُ  
ما قلتُ إنّي   أنكوي ناراً ولا  أدري   بناريَ      أنكوى القنديلُ
     فتجربة العشق والهيام بالمحبوب عند تحسين ليست تجربة عشق حسية قابعة في زوايا الجسد ومفاتنه بل تقترب من تجربة الغزل العذري ، فشوقه محموم ولوعته شفافة مجنونة وتنهده تألم كما يقول في القصيدة نفسها :
الشوقُ محمومٌ  بها   وعليلُ    والصمتُ منها قاتلٌ    وقتيلُ
أضنتْ  فؤادي ثم  دقّتْ  بابَه    فارتاحَ بالشكوى وصارَ يميلُ
 ..........................
هي لوعةٌ     شفافةٌ مجنونة    مطروبةٌ    لا تعرف التعليلُ
أوصافُها   تسري بليلٍ داجنٍ    تغدو يحاكي    قلبَها التهليلُ
وتنهدٌ   متألمٌ     في باطنٍ     وتعلقٌ     وتشابكٌ  مجبولُ
      فإحساساته مشحونة بفكر ثاقب وهادف ، والحب عنده هو امتداد لحب سامٍ بل حب في الله وهو لا يميل عنه  ؛ لأنّ تجربته الفنية والشعرية هي موهبة من الله وفنه وشعره في الله فالفن والأشعار ممزوجة تسري في الدم لهذا السبب يقول :
فالفنُ والأشعارُ فيضٌ في دمي    يسري وغاروا منكِ إذ  تبديلُ
لم يبق غيرُ الله في قلبي هوًى   ربَّي ولا أرضى   عليه  بديلُ
فالحبُّ نعمتُه   علينا   بالرّضا   جمعَ النفوسَ  بودّه   سعديل
     وهذا دليل على تجربة الشاعر العاطفية في إبداعه الشعري ، وعن موهبة رافدة وثقافة وافدة في منجزه الفني والشعري .
     والواقع إنني أميل إلى العامل الثقافي بالدرجة الأساس بوصفه الحالة المؤثرة في البناء النفسي والوجداني للفنان والشاعر ، ثم العوامل الأخرى منها الجانب المهني والأكاديمي والموهبة الفطرة الصافية ، وهناك منابع متعددة تتضامن فيما بينها فتضفي على مستوى معين من مستويات الإبداع .
      وقد قيل إنّ الشعر لا يحدث إلا في حالة من حالات ثلاث الغضب والطرب والشرب ، وإنّ بدايات كتابة الشعر ونظمه إنّما ينبثق من ثنايا تجربة عاطفية فردية .
     وكأنّ معاناة الحب تقف في قمة المنحى العاطفي الانفعالي لدى الإنسان ، ويبرز دور الانفعال أو التوتر في تعميق العمل الإبداعي عن طريق تدعيم التفاعل العميق بين الفنان والتجربة الواقعية ، وبالتالي شحن الموضوعات الفنية بقدر كبير من الانفعال والحساسية .
      إذاً اتجاه الشاعر الفني ذا أثر كبير في صقل موهبته الشعرية الناضجة والناتجة من تجربة واقعية ، فالفن حالة توتر، وليس حالة استقرار وحالة التوتر تصنع من السكون نتاجا فنياً ، وهذا ما نلمحه عند تحسين عباس .
      لقد انعكست موهبة الشاعر الفنية على شعره ؛ لهذا نجد كلّ مفردات الموسيقى ممزوجة بمفردات لغة شعره لتشكل معجمه الخاص به كما في قوله :
غنيتُ والنايَ والترنيمَ يحسدني        شهقتُ بالأسم نطقاً فاهتدى الثملُ
 وأيضاً قوله :
زوارقُ موسيقاي قيثارُها سما  معالمُ وركائي بمسمارِها أكتبوا
وفني شعاعُ الشمسِ بابله لظى  سقى كلَّ فنانٍ يرقُّ   ويصحبُ
      وأحياناً يشبه الأشياء المادية بالموسيقى والشعر كما قوله :
" دجلتي موسيقى
وفراتي شعر
وبغداد مني
يقبلها الرافدان
أجهشت حروفي على ثنايا شاردتي
بالحبر الأحمر "
والشعر عنده كبقية الفنون الحسية كما جاء في قوله :
الشعرُ فنٌ عوامُ الناسِ يطربُه   والفنُ حِسُّ الحشا والوجد يشتعلُ
وكذلك انعكست أشعاره على مستوى قصيدة النثر فاللغة عنده :
" ذبذباتٌ مذابة
تجذبُ الأسماعَ
في مددٍ ماسي
تنزلُ من سمواتِ
الكلمات بـ ... "
كذلك نجد لمفردة الشعر صدى في تعريفاته الشعرية :
" تراتيلٌ خافية
في ظلّ ممدود
حرثتْ كلماتِ الحبّ
في القلبِ وأمطرتْ
رحيقاً بـ ..."
وكذلك مفردة الموسيقى هي بدورها :
" نغمة صنعتها الإضلاع
في عالم سحري
وزمن ضوئي
يحتسيه الحالمون
في الليل بـ ... "
      ولهذا قيل إنّ الأدب بغير فنٍ رسولٌ بغير جواد في مرحلة الخلود ، والفن بغير أدبٍ مطيّة سائبة بغير حمل ولا هدف ، وإنّ الفنان الرفيع ينتج فناً رفيعاً من بيئة متواضعة ، والفنان السوقي ينتج فناً سوقياً من بيئة مرتفعة ...
      فالشعر والموسيقى أول ثنائية متحدة لا تنفصل ، ومن الشعر والموسيقى كان الفن والإبداع ، وعلاقة النغم بالكلام علاقة قديمة تطرب لها الإذن وتهدأ لها النفوس.
     لهذا نجد تجربة تحسين عباس الموسيقية قد انعكست إيجاباً على تجربته الشعرية مما ساعدها على النمو والتقدم السريع الصقل والدربة والمران ، فاجتاز مرحلة الكتابة العادية إلى مرحلة النظم بأنماط الشعر .
    فللعمودي حصة لا بئس بها ، وهذه تعدّ أولى مراحل كتابة الشعر عنده كما يبدو لنا من ديوانه البكر الموسوم بـ( عقارب الذاكرة ) ، فقصائده العمودية تتمثل في أربع عشرة قصيدة ومقطوعة ( نفدت قوافينا ، غزل القوافي ، تفاصيل ، لا تمدحي ، شعاع الحب من طه ، قالت لما صارحتها ، أراجيح الزمن ، بركان الشجون ، حروف الحكايات ، مزايا بلادي ، خيل الرجال ، أنشودتي ، شذا المثنى ، صدى الوركاء  ) .
     وله قصيدة واحدة على نظام شعر التفعيلة ( الحر ) بعنوان ( سبايا القلق ) منها :
" يا حبيبي لا تسافرْ
عن أراجيح الزمنْ
علنّي أصبحُ شاعرْ
أكتبُ الحبُّ على تلك الطلاسمْ
أنتَ أحلى من يغني في الخواطرْ "
       فالحب ما هو إلا انعكاس لتجربة عاطفية مطرزة بأوتار الفن الموسيقي ومفعمة باستذكار معاني الشعر ، لأنّ الشعر عنده يمثل رسالة الفنان المبعوث والموصول بالموسيقى لهذا يقول عنه :
فالحبُّ حرفان لا أقوي به لغة  لأنني لو لفظتُ   القولَ   أرتحلُ
أنتَ الذي أرضع الأشعارَ من ولهٍ     فصار ناظمها في النفس   يقتتل
...........................................................
ينبوعُ شعري هواكم قاده  الأمل  يسقي ضروباً تريد النظم تكتحل
ما همّني الحال إنّ الناس تجهلني     فقد أحبوا سنا الأعلام مذ جعلوا
............................................................
لامُ القوافي بغير الوزن تتطربُ    جذبتها نغماً    يحلو به العسل 
............................................................
أكابرُ الشعرا قد صوروا حكماً     لو يعلموا أنك التصويرُ والبدلُ
رسالةُ الزاجل المبعوث مولعةٌ    ترجو وصالاً لموسيقى بها خبلُ
        والموهبة هي الاستعداد الفطري للخلق والإبداع والتجربة العاطفية ، وكذلك الدربة والمراس والمران تضاف إلى ولعه بالموسيقى وسماع إذنه الرقيقة الحساسة الأنغام والثقافة المتواصلة ، هذا كلّه قد أعطى الفنان الأصيل والشاعر المبدع تحسين عباس عمق التفوق ، وقد ظهر جلياً في المجال الموسيقي وانعكاسه المميز على إبداعه الشعري بعمقه الثر في الكلاسي العمودي أوفي شعر التفعيلة أوفي القصيدة النثرية التي بدت تبرز ناضجة بوضوح .
      لدى شاعرنا كثير من الأمور الفنية الطاغية على شعره منها التنويع في الصيغ والعبارات وفواتح الجمل والفقرات واستعمالاته لأصوات التواصل في انسحاب العبارات وارتياحها فيما بينها واستعمال الألفاظ المألوفة من القرابة اللفظية فلغة الشعر عنده هي لغة العاطفة الممزوجة بالحس والشعور ، فضلاً عن عرفانية الحروف بدلالاتها المعنوية وربما يعطينا تفسيراً باطنياً لحروف اسم محبوته كما في قوله   :
الشوقُ محمومٌ بها    وعليلُ      والصمتُ   منها   قاتلٌ وقتيلُ
أضنتْ فؤادي ثم    دقّت بابَه      فارتاح بالشكوى وصار يميلُ
سبقت قصيدي قبل أن راودته      فتعثر  الإيحاء      والتفعيلُ
فاستسلمتْ كلّ القوافي منطقا      وغدتْ تغازلها بها    وتجولُ
فسقت بقاعُ الروح من نظراتها    واخضرّ فكري واستفاق دليلُ
ألف تآلفَ   قلبُها   سينٌ سنا     ياء يُرى   لامٌ لظاه     أسيلُ
جمعتْ حروفاً أطربتْ عود الهوى   نغم بلا وترٍ   وجُنَّ    ثميل
حتى قيل إنّ الشاعر مجموعة من المعاني المتضمنة في دلالاته المتنوعة في القصيدة .
       وقصيدة النثر لا تقل أهمية من وجود الأثر الموسيقي وأبعاده المعروفة كما هو مشهور في التفعيلات التي تشكل رموز إيقاع بحور الشعر العربي إلا أنّ النثر بعباراته وشحناته وبصماته الإيقاعية ، قد استفاد من التجارب السابقة في انسيابية الأبيات بقصرها وطولها ضمن أساليب منها أسلوب التكرار أو توحيد القافية أو تجنيس الكلمات  مثلاً كقوله :
" أحبّك في جوف هلوستي
أحبّك قبل بوحي وبعد صمتي
أحبّك قبل تنقيطي وتفقيطي
نطقت باسمك فتلذذت بصوتي
...........
يا قلعة ضادي ومعتكفي
 يا فاكهة حرفي في محبرتي "
فالقصيدة ممزوجة بأوتار النغم الموسيقي المستعارة من إيقاع الشعر الحر مثلاً قوله :
" حبيبي – حبيبي
على راحتيك
أنازع بياني
حبيبي – حبيبي
على مقلتيك أشاهدُ نفسي
عليلاً بحمى الخيال
إذا ما رواني
حبلى الحروف بمن ينقطها هدى
والطلق في إلهامه ضلّ المدى
رهنت هواها في جهاني واستوى
ألقاً يداعب ذكرياتي في الصدى "
      ونستشفّ من هذا التجوال المتواضع مدى انعكاس تجربة تحسين عباس الموسيقية على شعره في ضوء البنية الإيقاعية للقصيدة الواحدة وفي باكورة نتاجه الشعري بدلالاتها المشحونة مما سجل معجمه الشعري له حضوراً بهذه البصمات الفنية .   

*روافد المقالة :
 عقارب الذاكرة – شعر تحسين عباس ، العالمية للطباعة ، العراق ، المثنى ، ط1 ، 2011م .
                                                     
                                             د . مرتضى الشاوي
2011م =1432هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق