تجليات الأداء النصي المعاصر
قراءة فنية في ( نهر قطعت أنفاسه النار ) مجموعة شعرية لعلي
العبادي
د. مرتضى الشاوي
استدعاء المفردة المعاصرة وتوليد في الصيغة الفعلية :
إنّ الشاعر المعاصر قد حقق
مقاربة ثقافية من المتلقي في إشراك النثر الفني في إيصال الرسالة التعبيرية بطريقة
الصورة الشعرية من خلال الإضفاء على النص حيوية متميزة في تقبل نصوص الرمز
واستدعاء لغة الحياة اليومية وشيوعها في الشعر مؤطرة بمخيلة جذابة في تصوير
العواطف والمشاعر التي تلتقط المشاهد الواقعية بإحساس يمتلك شحنة انفعالية نحو الاشياء .
كما نراه في
استدعاء المفردات المعاصرة مثل مفردة (
جلطتان ) وتوليد في الصيغ الفعلية مثل الفعل ( عكسن ) في قوله :
" سلامٌ على قلبك
سلامٌ على روحك
جلطتان
عكسن رياح الخمول والسكون
جلطتان
عانقن الحياة رغم ذبولها
جلطتان
يرتشفن وجع المفردة " ( ص 29 )
بنية التكرار :
يهدف التكرار إلى
إبانة نفسية المتكلم كالانفعال بأنواعه وقد يكون التكرار لكلمة واحدة تمثل بؤرة
استقطاب للحدث الانفعالي كما في قوله في تكرار الفعل( كفى ) وهو تكرار لا
شعوري :
" امرأةٌ
تركض تخبطاً بخوفها
ورجل كهلٌ فرّ
من ذاكرة الوقار إلى ذاكرة الاحتقار
ومنهم من فرّ
من الموت إلى الموت
وأطفال قلوبهم
تتصارخ
كفى
كفى
كفى
أيتّها السمراء
لا ترحلي
لقد رحلتِ من
جغرافية ضاقت بها حتى عويل النساء " ( ص 22 – 23 )
وقد يكون
التكرار لأكثر من جملة متشابهة من حيث التركيب ؛ لأنه يميل إلى إشباع المعنى الذي أراده
الشاعر من إيصاله إلى المتلقي كانفعاله تجاه الأخبار عن ذاتية المرأة العصرية من
منظور قديم وحاضر ومستقبل ، لكنه يريد المرأة
المعاصرة هي الأنسب له كما في قوله :
" أنت
امرأة العصر الذي لم يأتِ
أنت امرأة
العصر الذي أتى
أنت امرأة
العصر الذي سيأتي
أنت امرأة هذا
العصر " ( ص 7 )
فضلاَ عن الانتفاع من العبارات الجاهزة في
الاستفادة من لغة الشعبي المطروحة عند
قارعة الطريق أو غيره لما تحتوي من أمتاع أدبي ، وهي لمحة دالة على الحياة اليومية
وتسجيل للمظاهر الأسلوبية المتكررة عند عامة الناس في مهمة فنية لاستجلاب الإيقاع
الصوتي المؤثر في النفس باستعمال صيغ التكرار المتنوعة كما في قوله :
" أريد أن أقول
وأريد أن لا أقول
لكن سأقول عندما لا أقول
الكلُّ يقول ما يخرج من القلب
يدخل إلى القلب إلاّ أنا
أقولْ ما يخرج من العين
يدخل إلى القلب " ( ص 8 )
وكذلك استعمال عبارة يجوز أو لا يجوز بمفهومها الشائع كما في قوله :
" يا الله
لماذا برّاد
الموتى ندخله رغماً عنا ؟
تتجمد دموعُنا
فتذوب أرواحنا
يجوز ولا يجوز
يجوز الموت
لا يجوز أن
تحيا
إذا مات الموت
فينا إعجابا
قد لا أكتب
رسالة أخرى " ( ص 23- 24 )
الأداء الدرامي :
وهو يقوم بإظهار صوتين :
الأول منطوق ، والآخر صامت ، وبينهما علاقة جدلية وقد استفاد المبدع علي العبادي
من تأثير ممارسته المهنية في التأليف المسرحي والتمثيل على نتاجه الشعري في مجال
القصيدة السردية الدرامية ، وربما يقوده إلى تهجين الحوارات داخليا ( المنولوج ) أو
خارجياً ( الدايلوج ) كما نراه في هذه المشاهد الشعرية بطريقة الحوار الدرامي
المسرحي :
" مازلتِ
تبحثين عن ذاتكِ
في ذائقة
الموتى ؟
التي هشمتْها
رياحكِ
دولةٌ بلا علم
فلا أكونَ لك
شعباً
حتى لا تقتليني
وتفتشين
عن ذاتكِ في
ذائقتي الميّتة
تقولين لي :
" أنتَ
ميتٌ منذ أن كنت
جنيناً في
ذاكراتي
فولدتُكَ
شابّاً يانِعا
في ذاكرة
الوجع" " ( ص 9 )
وكذلك قوله :
" يقول
العرّافُ
مرة أخرى
جهنم للفقراء
مجّاناً
على أن يحمِلوا
جوازاتٍ
مختومة بسيماهم
" ( ص 17 )
وأيضاً قوله :
" نظرة
تلو الأخرى
سُمْرتُها
أنبأتني ربَّما لا توجد أخرى
قلتُ : بلى
نظرة تلاها
انفجار
تناثرت أشلاء
الذكرى على رصيف عاطفتي
التي أراد
متذوقو الجمال إحراقها
بدم تلك
السمراء
حينما يعلُ صوت
الضجيج
فوق دقّات
الحُبِّ
لا تسمع سوى
الفرار " ( ص 22 )
أنسنة الأشياء
:
وهي من مظاهر الجمال في صناعة الصورة الشعرية بأسلوب حيوي ، يتخذ من الأشياء
الطبيعية حراكاً فاعلاً في مزجها بلغة مؤنسنة وإضفاء الطابع الإنساني على الجمادات
أو مظاهر الطبيعة الخلابة كما قوله :
" يتراقص خريَر
الماء فرحاً
حينما تبتهل
دموعي
في محراب مهجور
لا يدخله الذي
في جعبته بقايا سرور
أعيش في جزيرة
يابستها
دَفنْتُ جسدي
وماؤها أغرقَ
روحي
انتظركِ لنصرتي
" ( ص 22 )
المفارقة
النصية :
تعدّ المفارقات بكثافتها النصية صناعة فلسفية
في إبراز الصورة الشعرية بطابع فكري يحتوي على التعقيد والغموض والإثارة والجاذبية
وعنصرالمفاجئة ( الصدفة ) ، وهو ناتج عن مرجعيات ضدية في البوح الفكري الاجتماعي ،
يصل إلى حد التشابك في العلاقات ؛ لما تمتلك من مسافة التوتر الجمالية في التعجب
والانبهار والحيرة في استقطاب المتلقي بدرجة المفارقة الفلسفية المبطنة بطابع
التصوير البياني المجازي من تشبيه أو غيره كما في قوله :
" صمتي
كلامي
وجهان لعملة
جنوني
إنسانيتّي
يتيمة المعنى
كغيمة تنوءُ
بمطر الضجر " ( ص 14 )
الترميز الإشاري :
إنّ نجاح الرمز الأسطوري الآشوري الإشاري بالاقتباس المباشر مستوحياً أسطورة
( كلكامش ) في البحث عن نبات الخلود وهذا ليس ضمناً ، بل يعود إلى مقدرة الشاعر
المصور في استدعائه حتى يصبح جزءاً من
مخيلته ومشاعره وعواطفه فهو يعقد مقارنة بين الماضي والمستقبل ، وبين أمسه وغده ،
وكأنّ المسافة تنطوي على التلفيق للتقارب
المكاني ؛ ليبحث عن عدة انفعالات تتأرجح حولها صورة حلمية تسجل صورة الألم البارز
على وجنات الألم عند الأطفال كما في قوله :
" ما بين بحث كلكامش عن عشبة
الخلود
وانتظارك مسافة
هذيان الحلم
خلاصته أنت
في هذه الحياة
حرارة شمسنا تجفّف
الدمع
على وجنات أطفالنا " ( ص 13
– 14 )
الإحالات :
نهر قطعت
أوصاله النار – مجموعة شعرية لعلي العبادي ، طبع بمكتب الزوراء ، ط1 ، 2011م