عيد
مؤجّل* / قصة قصيرة
أوشك شهر رمضان بحليته الروحانية وبقداسته الإلهية
أن يجرّ ثوبه القشيب كما ينبغي في حساب الصائمين ؛ لأنّهم في آخر يوم منه قد شعروا
بفراقه إذ تصرمت أيامه ولياليه كحبال الدلو المتهرئة بعد عناء السقي .
ظلّ الناس – كعادتهم - في حيرة ولهفة انتظار
بزوغ الهلال وهو يبدو دائما ً كزورق فضي ، فلا العين المجردة تراه بوضوح ، ولا العين
المسلحة ( الدربين )* تكشف سرّه عند الغروب
.
كانت أعناق النساء مشرئبة نحو الأفق غارقات
في الأوهام وخيالات المساء ، وينتظرن مداعبات الصباح الآتي من جديد ،
وكذلك تمتمات كبار السن تتوالى نحو السماء بهتاف ونفحات قدسية يا الله ... يا الله
! ، أما الأطفال فهم في انتظار الفرحة الكبرى ، جموح ولعب وابتسامات وقهقهات
تتعالى وأصوات : يا رب ، يا رب .....!!!
متى يطلع الهلال ؟
وكيف نراه بثغر شوال المبتسم ؟ كيف أقابل أصدقائي وقراباتي غداً ؟ كيف أعانق
والدتي ؟ ، وكم يعطيني أبي من المال ؟ وماذا تشتري لي والدتي من الحلوى ؟ أسئلة
تتراكض وأجوبة مؤجلة في طيات الغد المؤمّل .
إنّه الحاضر في كلّ
ليلة والغائب قبيل ليلة ، قد امتطى صهوة الليل السوداء فجأة ؛ ليغيب عن عيونهم
الناعسة ، ويخرج بغرة فرس بيضاء يبهر الأطفال بانحنائه أجلالاً لهم ، هكذا اعتادت
نفوسنا الظامئة وقلوبنا الوالهة وأفكارنا الغارقة
؛ لرؤية الهلال ذلك " الدائب السريع ".
الكلّ ينتظر إلى طلعته
البهية ، لكن لم يبدُ بعدُ ذلك المشهد عند الغروب إذ اختفى خلف غيوم بيضاء راكضة
تناثرت وتسابقت بسرعة تدفعها ريح هائجة .
كم مذهل ومريع هذا
المساء ؟ لا يحمل تباشير فرحة العيد ، ربما يجرّنا إلى يوم آخر .
لقد طبع في أوجه الناس الحزن ، واعتاد الصائمون
في نحو ما أن يعتمدوا على الرؤية بالعين المجردة كحكم شرعي أولاً ، وثانياً على
مضي ثلاثون يوماً من الشهر كان العاشقون يتنافسون في ضيافته الرحمانية ، لكنّ
الناس لم يروا شيئاً قط ، ولم يبن ضوئه المعتاد فظنوا أنّ العيد في خطر فراحوا
يتهامسون... ويتهاجسون ... وووو .
صاح الناس : الهلال في
خطر !!! ونحن ننتظر الفرج . هل من راءٍ ينفذ بصره خلف السحاب ، فزرقاء اليمامة ما
كان عليها لترمق السماء ؛ لأنّ عيونها خلقت لترى معالم الصحراء .
ما الحل ؟ إذ لا حلّ !!!،
فالأخبار من الأماكن البعيدة تأتي متأخرة ولا يمكن الاعتماد إلا على رؤية شاهد
يعتدّ به .
باتت القرية الريفية النائية في صمت بلا مذياع
صوتي أو مرئي ينقل لهم نبأ حلول العيد ، فأجهزة الراديو التي تعمل على البطاريات
قليلة ونادرة الاستعمال، فلا اتصال سلكي كان موجوداَ ولا جهازاً محمولاً كالذي هو
في وقتنا .
أغرق الناس في النوم
بعد جهد وتعب في كشف ذلك المخلوق المطيع ، وأرادوا أن يعلموا عن أمر إطلالته فلم
يفلحوا .
راحوا ينتظرون ملامح
الهلال فجراً ، وهو يطلّ بثوب شاب حسن ، وهي مسلمة في ظهوره يقيناً ، ولكنّ آمالهم
تبددت بالفشل ، وتيقنوا أنّ فرحتهم بالهلال قد سرقت من قبل سماء صارت سوداء مكتظة
بالغيوم ، إذ الإمطار تساقطت بغزارة وانهمرت في كل مكان بلا انقطاع ، وغاصت
الشوارع بالمياه الموحلة بالطين فلا شعاع من شمس قادم إلى بيوتهم ولا ( طارش )***
يخبرهم بحتمية العيد .
ظلّ سكان القرية صائمين في ترقب الطريق الطيني ،
علّهم يجدون بارقة أمل تطلّ عليهم من بعيد .
أقبل الظهر بأذانه
كأنّه شيخ جليل عليه سمات الوقار، ولم يبادر أيّ أحد في إطراء تحيات العيد نحو الآخرين
، إذ لا عيد لهم ما لم يتحققوا من ظهوره بشهادة رجل عدل ، وشيوع رؤيته في المدن
القريبة .
وفجأة قدم ( أبو علي )
ذلك المسافر الذي شدّ السفر في كلّ سنة لزيارة
أحد أقربائه في القرية الغارقة بالمطر بمناسبة حلول عيد الفطر ، وأخبرهم أنّ العيد
قد تحقق في المدن الكبيرة وعند رجال الدين منذ الصباح الباكر... فرح الناس بهذا
الخبر السارّ إذ ردّت المياه إلى تقاسيم وجهوهم ، وتصافحوا يغبط بعضهم الآخر.
وسارع الأطفال في
تحياتهم يجوبون الطرقات باحثين عن حلوى عيدهم السعيد المفقود في صبيحته بأقدام
ملطخة بالوحل ظهراً حتى المساء .
_______________
*حدثت
القصة في أوائل السبيعنيات في قرية ريفية نائية من قرى جنوب العراق عندما كانت
الوسائل السمعية والبصرية غير منتشرة في
ذلك الوقت .
**
الدربين : مفردة تطلق على المنظار لرؤية الأشياء البعيدة بوضوح وهو منضار الجيش
مثلاً أو المنضار اليدوي ذو القبضتين ، ودربين : أي الذهاب إلى مكان ما مرتين ، وهي
مشتقة من كلمة درب يعني طريق أو مسار ... وقيل يلفظ ( دربيل ) وليس( دربين ) وقد حدث بها إبدال لكثرة
الاستعمال .
*** يسمي
العراقيون القادم من بعيد فجأة نهاراً أو ليلاً بالطارش ؛ لأنّه يأتي خلسة بلا
موعد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق